فصل: ولما حضر رجب باشا إلى مصر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **


 ومات أيضًا محمد كتخدا كدك المذكور فإنه أشتهر صيته بعد هذه الحوادث ونفذت كلمته ببابه ولم يزل حتى مات على فراشه في شهر القعدة 1132‏.‏

ومات الأمير أحمد بك المسلماني ويعرف أيضًا باسكي نازي وكان أصله كاتب جراكسة وكان يسمى بأحمد أفندي ثم عمل باش اختيار جراكسة وحصل له عز عظيم وثروة وكثرة مال وكان أغنى الناس في زمانه وكان بينه وبين اسمعيل بك بن ايواظ وحشة وكان بن ايواظ يكرهه ويريد قتله فالتجأ إلى محمد بك جركس‏.‏

فلما هرب جركس في المرة الأولى اختفى أحمد أفندي المترجم وبيعت بلاده ومتاعه فلما ظهر جركس ثانيا ظهر أحمد أفندي وعمل صنجقيًا سنة 1133 وصار صنجقيًا فقيرًا ثم ورد مرسوم بأن يتوجه المترجم إلى مكة لإجراء الصلح بين الأشراف فتوجه ومكث هناك سنة ثم رجع إلى مصر ومكث بها مدة إلى 1136 فأرسلوه إلى ولاية جرجا ليشهل غلال المبري وكان ذلك حيلة عليه‏.‏

فلما توجه إلى جرجا أرسل محمد باشا فرمانًا إلى سليمان كاشف خفية بقتله فذهب سليمان كاشف ليسلم عليه فغمز عليه بعض أتباعه فضربوه وقتلوه عند العرمة وقطعوا رأسه في حادي عشري شهر القعدة سنة 136‏.‏

ومات الأمير علي كتخدا المعروف بالداودية مستحفظان وكان من أعيان باب الينكجرية وأصحاب الكلمة مع مشاركة مصطفى كتخدا الشريف وكان من الأعيان المعدودين بمصر ولم يزل نافذ الكلمة وافر الحرمة إلى أن مات على فراشه في جمادى الآخرة سنة 1133‏.‏

ومات الأمير إبراهيم أفندي كاتب كبير الشهير بشهر أوغلان مستحفظان و كان أيضًا من الأعيان المشهورين ببابهم مع مشاركة عثمان كتخدا الجرجي تابع شاهين جربجي وانفرد معه بالكلمة بعد مصطفى كتخدا الشريف ورجب كتخدا بشناق لما خرجهما اسمعيل بك بن ايواظ إلى الكشيدة كما تقدم الإشارة إلى ذلك‏.‏

فلما قتل اسمعيل بك رجع مصطفى كتخدا الشريف ورجب كتخدا ثانيًا إلى الباب وانحطت كلمة المترجم وعثمان كتخدا ثم عزل إبراهيم أفندي المذكور إلى دمياط وأهين ومكث هناك أشهرًا ثم حضروه وجعلوه سردار جداوي وتوجه مع الحج ومات هناك في سنة 1137‏.‏

ومات النبيه الفطن الذكي حسن أفندي الروزنامجي الدمرداشي وكان باش قلفة الروزنامجه فلما حضر اسمعيل باشا واليًا على مصر في سنة ست ومائة وألف وكانت سنة تداخل فتكلم الباشا مع إبراهيم بك أبي شنب في كسر الخزينة وعرض عليه المرسوم السلطاني بتعويض كسر الخزينة من أشغال العشرين ألف عثماني التي كانت عليهم وكان له ميل للعلوم والمعارف وخصوصا الرياضيات والفلكيات ويوسف الكلارجي الفلكي الماهر هو تابع المذكور ومملوكه‏.‏

وقرأ على رضوان أفندي صاحب الأزياج والمعارف وكان كثير العناية برضوان أفندي المذكور ورسم باسمه عدة آلات وكرات من نحاس مطلية بالذهب وأحضر المتفنين من أرباب الصنائع صنعوا له ما أراد بمباشرة وإرشاد رضوان أفندي وصرف على ذلك أموالًا عظيمة وباقي أثر ذلك إلى اليوم بمصر وغيرها ونقش عليها اسمه وأسم رضوان أفندي وذلك سنة 1113 وقبل ذلك وبعدها ولم يزل في سيادته حتى توفي‏.‏

ومات الأمير مصطفى بك القزلار المعروف بالخطاط تابع يوسف أغا القزلار دار السعادة تولى الإمارة والصنجقية في سنة 1094 وتقلد قائمقامية بعد عزل اسمعيل باشا وذلك سنة 1109 قهرًا عنه وتقلد مناصب عديدة مثل كشوفية جرجا وغيرها ثم تقلد الدفتر دارية سنة ثلاث وثلاثين فكان بين لبسه الدفتر دارية والقائمقامية أربع وعشرون سنة وبعد عزله من الدفتر دارية مكث في منزله صنجقيًا بطالًا إلى أن توفي سنة 1142‏.‏

ومات الأمير المعظم والملاذ المفخم الأمير اسمعيل بك بن الأمير الكبير ايواظ بك القاسمي من بيت العز والسيادة والإمارة نشأ في حجر والده في صيانة ورفاهية وكان جميل الذات والصفات وتقلد الإمارة والصنجقية بعد موت والده الشهيد في الفتنة الكبيرة كما تقدم وكان لها أهلًا ومحلًا وكان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة وقد دب عذاره وسمته النساء قشطة بك‏.‏

فإنه لما أصيب والده في المعركة بالرملة تجاه الروضة وقتل في ذلك اليوم من الغز والأجناد خاصة نحو السبعمائة ودفن والده فلما أصبحوا ركب يوسف الجزار تابع ايواظ بك وأحمد كاشف وأخذوا معهم المترجم وذهبوا إلى بيت قانصوه بك قائمقام فوجدوا عنده إبراهيم بك أبا شنب وأحمد بك تابعه وقيطاس بك الفقاري وعثمان بك بارم ذيله ومحمد بك قطامش وهم جلوس وعليهم الكآبة والحزن وصاروا مثل الغنم بلا راع متحيرين في أمرهم وما يؤول إليه حالهم فلما استقر بهم الجلوس نظر يوسف الجزار إلى قيطاس بك فرآه يبكي فقال له لأي شيء تبكي هذه القضية ليس لنا فيها ذنب ولا علاقة وأصل الدعوى فيكم معشر الفقارية والآن انجرحنا وقتل منا واحد وخلف مالًا ورجالًا قلدوني الصنجقية وأمير الحاج وسر عسكر وكذلك قلدوا ابن سيدي هذا صنجقية والده فيكون عوضًا عنه و يفتح بيته وأعطونا فرمانا وحجة من الذي جعلتموه نائب شرع بالمعافاة من الحلوان ونحن نصرف الحلوان على المقاتلين والله يعطي النصر لمن يشاء‏.‏

ففعلوا ذلك ورجع يوسف بك وصحبته اسمعيل بك ومن معهم إلى بيت المرحوم ايواظ بك وقضوا أشغالهم ورتبوا أمورهم وركبوا في صبحها إلى باب العزب وأخذوا معهم الأموال فأنفقوا في الست بلكات وغيرهم من المقاتلين ونظموا أحوالهم في الثلاثة أيام الهدنة التي كانوا اتفقوا على رفع الحرب فيها بعد موت ايواظ بك وكان الفاعل لذلك أيوب بك وقصده حتى يرتب أموره في الثلاثة أيام ثم يركب على بيت قانصوه بك ويهجم على من فيه ولو فعل ذلك في اليوم الذي قتل فيه ايواظ بك لتم لهم الأمر ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا‏.‏

ولم يرد الله لهم بذلك وأخذوا في الجد والاجتهاد وبرزوا للحرب في داخل المدينة وخارجها وعملوا المكايد ونصبوا شباك المصايد وأنفقوا الأموال ونقبوا النقوب حتى نصرهم الله على الفرقة الآخرة وهم أيوب بك ومحمد بك الصعيدي وإفرنج أحمد وباب الينكجرية ومن تبعهم وقتل من قتل وفر من فر ونهبت دورهم وشردوا في البلاد وتشتتوا في البلاد البعيدة كما ذكر غير مرة وأستقر الحال وسافر أميرًا بالحج في تلك السنة يوسف بك الجزار واستقر المترجم بمصر وافر الحرمة محتشم المكانة مشاركًا لإبراهيم بك أبي شنب وقيطاس بك في الأمر والرأي وفي نفس قيطاس بك ما فيها من حقد العصبية فصار يناكدهما سرًا وسلط حبيب وأبنه سالم على خيول اسمعيل بك فجم أذنابها ومعارفها كما ذكرنا ثم نصب لهما ولمن والاهما شباكًا ومكايد ولم يظفره الله بهما ولم يزل على ذلك وهما يتغافلان ويغضيان عن مساويه الخفية إلى أن حضر عابدي باشا وأرسل قلد يوسف بك الجزار قائمقام وخلع يوسف بك على ابن سيده اسمعيل بك وجعله أمين السماط‏.‏

ولما وصل الباشا إلى العادلية وقدمت له الأمراء التقادم وقدم له اسمعيل بك المترجم تقدمة عظيمة وتقيد بخدمة السماط أحبه عابدي باشا ومال بكليته إليه ثم أنه اختلى معه ومع يوسف بك وسألهما عن سبب موت والده فأخبراه أن مصر من قديم الزمان فرقتان وعرفاه الحال وإن قيطاس بك وأيوب بك بيت واحد ووقعت بينهما خصومة وأيوب بك أكثر عزوة وجندًا فوقع قيطاس بك على ايواظ بك والتجأ إليه فقام بنصرته وفاداه وأنفق بسببه أموالًا وتجندلت من رجاله أبطال إلى أن مات وقتل وبلغ قيطاس بك بنا ما بلغ فلم يراع معنا جميلًا وفي كل وقت ينصب لنا الحبائل ويحفر فينا الغوائل ونحن بالله نستعين فقال الباشا‏:‏ يكون خيرًا‏.‏

وأضمر لقيطاس بك السوء ولم يزل حتى قتله كما ذكر بقراميدان وورد أمر تقليد المترجم على الحج أميرًا وتقليد إبراهيم بك الدفتر دارية وألبسهما عابدي باشا الخلع وتسلم أدوات الحج والجمال وأرسل غلال الحرمين وبعث القومانية والغلال إلى البندر وأرسل أناسًا وعينهم لحفر الآبار المردومة وتنقية الأحجار من طريق الحجاج‏.‏

وضم إليه جماعة من الفقارية مثل حسين بك أبي يدك وذي الفقار معتوق عمر أغا بلغيه وأصلان وقبلان وأمثالهم وأخذوا يحفرون للمترجم وينصبون له الغوائل واتفقوا على غدره وخيانته ووقف له طائفة منهم بطريق الرميلة وهو طالع إلى الديوان فرموا عليهم الرصاص فلم يصب منهم سوى رجل قواس ورمح اسمعيل بك وأمراؤه إلى باب القلعة و نزل بباب العزب وكتب عرضحال وأرسله إلى علي باشا صحبة يوسف بك الجزار مضمونه الشكوى من محمد بك جركس وإنه جامع عنده المفاسيد ويريدون إثارة الفتن في البلد‏.‏

فكتب الباشا فرمانات إلى الوجاقات بإحضار محمد بك جركس وأن أبي فحاربوه وركب جركس بالمنضمين إليه وهم قاسمية وفقارية وذلك بعد إبائه وعصيانه فصادف المتوجهين إليه فحاربهم بالرميلة وآل الأمر إلى انهزامه وتفرق من حوله ولم يتمكن من الوصول إلى داره وخرج هاربًا من مصر وقبض عليه العربان وأحضروه إلى اسمعيل بك أسيرًا عريانًا في أسوأ حال فكساه وأكرمه ألبسه فروة سمور وأشار عليه أحمد كتخدا أمين البحرين وعلي كتخدا الجلفي بقتله فلم يوافقهما على ذلك‏.‏

وقال إنه دخل بيتي وحل في ذمامي فلا يصح أن أقتله ثم نفاه إلى قبرص‏.‏

ولما سافر محمد بك بن أبي شنب إلى اسلامبول بالخزينة في تلك السنة وصى قاسم بك بالإرسال إلى جركس وإحضاره إلى مصر ففعل وحضر إلى مصر سرًا و اختفى عنده ولما وصل محمد بك بالخزينة وأجتمع بالوزير الأعظم دس إليه كلامًا في حق المترجم وقال له أن أهملتم أمره إستولى على الممالك المصرية وطرد الولاة ومنع الخزينة فإن الأمراء والدفتر دارية وكبار الأمراء والوجاقات صاروا كلهم أتباعه ومساليكه ومماليك أبيه والذي ليس كذلك فهم صنائعه وعلي باشا المتولي لا يخرج عن مراده في كل ما يأمر به‏.‏

وأخرج من مصر وأقصى كل ناصح في خدمة الدولة مثل محمد بك جركس ومن يلوذ به وعمل للوزير أربعة آلاف كيس على إزالة اسمعيل بك والباشا وتولية خلافه ويكون صاحب شهامة وتدبير وكان ذلك في دولة السلطان أحمد فأجابوه إلى ذلك وعينوا رجب باشا أمير الحاج الشامي ورسموا له رسوما بإملاء محمد بك أبي شنب ملخصها قتل الباشا واسمعيل بك وعشيرته ما عدا علي بك الهندي‏.‏

 

ولما حضر رجب باشا إلى مصر

وقد كان قاسم بك أحضر محمد جركس وأخفاه وكان اسمعيل بك بن أيواظ طالعًا بالحج سنة 1131 فاليوم الذي وصل فيه رجب باشا إلى العريش ووصل المسلم إلى مصر كان خروج اسمعيل بك بالحج من مصر وأرسل رجب باشا مرسومًا إلى أحمد بك الأعسر وجعله قائمقام وأمره بإنزال علي باشا إلى قصر يوسف والاحتفاظ به ففعلوا ذلك ووصل رجب باشا فأحضر علي باشا وخازنداره وكاتب خزينته والروزنامجي وأمرهم بعمل حسابه ثم أمر بقتله فقتلوه ظلمًا وسلخوا رأسه وأرسلها إلى الروم وضبط مخلفاته ودبر معه أمر بن ايواظ‏.‏

وما ما كان من أمر الباشا وجركس ومن بمصر فإنه لما سافر يوسف بك الجزار ومن معه على الرسم المتقدم عملوا شغلهم وقتلوا اسمعيل بك الدفتر دار واسمعيل أغا كتخدا الجاويشية وظهر محمد بك جركس ونزل من القلعة إلى بيته وهو راكب ركوبة الدفتر دار وأستقر الباشا حمد بك الأعسر دفتر دار‏.‏

ولما وصل المتوجهون إلى سطح العقبة نزل يوسف بك الجزار وترك محمد بك بن ايواظ واسمعيل بك جرجا في السطح فلما دخل على الصنجق وسلم عليه اشتغل خاطره وقال له‏:‏ لأي شيء جئت فقال‏:‏ أنا لست وحدي بل صحبتي أخوك محمد بك واسمعيل بك جرجا وعبد الرحمن أغا ولجه‏.‏

فقال‏:‏ لا إله إلا الله كيف أنكم تتركون البلد وتأتون أما تعلموا أن لنا أعداء والعثمانية ليس لهم أمان ولا صاحب ويصيدون الأرنب بالعجلة فأعدوا العدة وسافروا إلى مصر وبعد أيام وصل مرسوم بالأمان والرضا لاسمعيل بك وجماعته وولوا على مصر محمد باشا من حيث أتى بعد ما دفع المائة وعشرين كيسًا التي أخذها من دار الضرب وصرفها على تجريدة أجرود ولم يزل محمد بك جركس ومحمد بك بن سيده ومن يلوذ بهم مصرين على حقدهم وعداوتهم للمترجم وهو يتغافل عنهم ويغضي عن مساويهم ويسامح زلاتهم حتى غدروا به وقتلوه بالقلعة على حين غفلة وذلك أنه لم يزل ذو الفقار تابع عمر أغا يطالب بفائظ حصته في قمن العروس ويكلم جركس يشفع له عند اسمعيل بك فيقول له‏:‏ أطرد الصيفي من عندك وأرسل إلي بعد ذلك ذا الفقار ويأخذ الذي يطلع له عندي إلى أن ضاق خناق ذي الفقار من الفشل والإعدام فطلع إلى كتخدا الباشا وشكا إليه حاله فقال له‏:‏ وما الذي تريد نفعله قال‏:‏ أريد أن أقتل ابن ايواظ عندما يأتي إلى هنا وأعطوني صنجقية وعشرين كيسًا فائظ من بلاده وكشوفية المنوفية فدخل الكتخدا وأخبر مخدومه بذلك فأجابه إلى مطلوبه على شرط أن لا يدخلنا في دمه‏.‏

فنزل ذو الفقار وأخبر جركس بما حصل وطلب أن يكون ذلك بحضوره هو وإبراهيم فارسكور فأجابه إلى ذلك ولما اجتمعوا في ثاني يوم عند كتخدا الباشا دخل ذو الفقار وقدم له عرضحال إلى اسمعيل بك فأخذه وشرع يقرأ فيه وإذا بذي الفقار سحب الخنجر وضرب الصنجق به في مدوده وكان معه قاسم بك الصغير وأصلان وقبلان وخلافهم مستعدين لذلك فعندما رأوه ضرب اسمعيل بك سحبوا سيوفهم وضربوا أيضًا اسمعيل بك جرجا فقتلوه فهرب صاري علي وكتخدا الجاويشية مشاة إلى باب الينكجرية وقطعوا رأس الأميرين وشالوا جثثهما إلى بيوتهما فغسلوهما وكفنوهما ودفنوهما بمدفن أبي الشوارب الذي بطريق الأزبكية عند غيط الطوشي و ذلك في سنة 1136‏.‏

ثم أرسلوا رأسيهما مسلوخين فدفنوهما أيضًا وانقضت دولة اسمعيل بك ابن ايواظ‏.‏

وكانت أيامه سعيدة وأفعاله حميدة و الإقليم في أمن وأمان من قطاع الطريق وأولاد الحرام وله وقائع مع حبيب وأولاده يطول شرحها وسيأتي استطراد بعضها في ترجمة سويلم وكان صاحب عقل وتدبير وسياسة في الأحكام وفطانة ورياسة وفراسة في الأمور وله عدة عمائر ومآثر منها أنه جدد سقف الجامع الأزهر وكان قد آل إلى السقوط وأنشأ مسجد سيدي إبراهيم الدسوقي بدسوق وكذلك أنشأ مسجد سيدي علي المليجي على الصفة التي هما عليها الآن‏.‏

ولما تمم بناء المسجد المليجي سافر إليه ليراه وذلك في منتصف شهر شعبان سنة 1135‏.‏

ومن أفاعيله الجميلة كان يرسل غلال الحرمين في أوانها ويرسل القومانية إلى البنادر ويجعل في بندر السويس والمويلح والينبع غلال سنة قابلة في الشون تشحن السفائن وتسافر في أوانها ويرسل خلافها على هذا النسق‏.‏

ولما بلغ خبر موته لأهل الحرمين حزنوا عليه وصلوا عليه صلاة الغيبة عند الكعبة وكذلك أهل المدينة صلوا عليه بين المنبر والمقام ومات وله من العمر ثمان وعشرون سنة وطلع أمير بالحج ست مرات آخرها سنة ثلاث وثلاثين‏.‏

وكان منزله هو بيت يوسف بك بدرب الجماميز المجاور لجامع بشناك المطل على بركة الفيل وقد عمره وزخرفه بأنواع الرخام الملون وصرف عليه أموالًا عظيمة وقد خرب وصار حيشانًا ومساكن للفقراء وطريقًا يسلك منها المارة إلى البركة ويسمونها الخرابة ولما مات لم يخلف سوى إبنة صغيرة ماتت بعده بمدة يسيرة وحملين في سريتين ولدت إحداهن ولدًا وسموه ايواظ عاش نحو سبعة أشهر ومات وولدت الأخرى بنتًا ماتت في فصل كو دون البلوغ فسبحان الحي الذي لا يموت‏.‏

ومات الأمير اسمعيل بك جرجا وكان أصله خازندار ايواظ بك الكبير وأمره اسمعيل بك وقلده صنجقًا ومنصب جرجا فلذلك لقب بذلك ولم يزل حتى قتل مع ابن سيده في ساعة واحدة ودفن معه في مدفن رضوان بك أبي الشوارب‏.‏

ومات كل من الأمير عبد الله بك والأمير محمد بك بن ايواظ والأمير إبراهيم بك تابع الجزار قتل الثلاثة المذكورون في ليلة واحدة وذلك أنه لما قتل الأمير اسمعيل بك بن ايواظ بالقلعة بيد ذي الفقار بممالأة محمد بك جركس في الباطن وعبد الله بك لم يكن حاضرًا انضمت طوائف الأمراء المقتولين ومماليكهم إلى عبد الله بك لكونه زوج أخت المرحوم اسمعيل بك ومن خاصة مماليك ايواظ بك الكبير‏.‏

وكان كتخداه في حياته وقلده اسمعيل بك الإمارة والصنجقية وطلع أميرًا للحج في السنة الماضية التي هي سنة خمس وثلاثين ورجع سنة ست وثلاثين‏.‏

فلما وقع ذلك انضموا إليه لكونه أرأس الموجودين وأعقلهم وأقبلت عليه الناس يعزونه في ابن سيده اسمعيل بك وأزدحم بيته بالناس وتحقق المبغضون أنه أن أستمر موجودًا ظهر شأنه وانتقم منهم فأعملوا الحيلة في قتله وقتل أمرائهم‏.‏

وطلع في ثاني يوم ذو الفقار قاتل المرحوم اسمعيل بك إلى القلعة فخلع عليه الباشا وقلده الآمرية والصنجقية وكاشف إقليم المنوفية‏.‏

ونزل إلى بيت جركس ومعه تذكرة من كتخدا الباشا مضمونها أنه يجمع عنده عبد الله بك ومحمد بك ومحمد بك ابن ايواظ وإبراهيم بك الجزار ويعمل الحيلة في قتلهم‏.‏

فكتب جركس تذكرة إلى عبد الله بك وأرسلها صحبة كتخداه بطلبه للحضور عنده ليعمل معه تدبيرًا في قتل قاتل المرحومين فلما حضر كتخدا جركس إلى بيت عبد الله بك بالتذكرة وجد البيت مملوءًا بالناس والعساكر والاختيارية والجربجية وواجب رعاياه وعنده علي كتخدا الحلفي عزبان وحسن كتخد حبانية تابع يوسف كتخدا تابع محمد كتخدا البيوقلي وغيرهم نفر وطوائف كثيرة فأعطاه التذكرة فقرأها ثم قال لعلي بك الهندي‏:‏ خذ محمد بك وإبراهيم بك وأذهبوا إلى بيت محمد بك جركس وانظروا كلامه وأرجعوا فأخبروني بما يقول‏.‏

فركبوا وذهبوا عند جركس فدخلوا عليه فوجدوا عنده ذا الفقار بك وهو يتناجى معه سرًا فأدخلهم إلى تنهة المجلس وأرسل في الحال إلى كتخدا الباشا يخبره بحضور المذكورين عنده ويقول له‏:‏ أرسل إلى عبد الله بك وأطلبه فإن طلع إليكم وعوقتموه ملكنا غرضنا في باقي الجماعة‏.‏

فأرسل الكتخدا يقول لجركس أن لا يتعرض لعلي بك الهندي لأن السلطان أوصى عليه وكذلك صاري علي أوصى عليه الباشا لأنه أمين العنبر وناصح في الخدمة‏.‏

وأرسل في الحال تذكرة إلى عبد الله بك يأخذ خاطره ويعزيه في العزيز ابن سيده ويطلبه للحضور عنده ليدبر معه أمر هذه القضية وقتل قاتل المرحوم فراج عليه ذلك الكلام والتمويه‏.‏

وركب في الحال لأجل نفاذ المقدور وقال لعلي كتخدا‏:‏ أجلس هنا ولا تفارق حتى أرجع وطلع إلى القلعة ومعه عشرة من الطائفة ومملوكان والسعادة فقط ودخل على كتخدا الباشا فتلقاه بالبشاشة ورحب به وشاغله بالكلامإلى العصر وعندما بلغ محمد بك جركس ركوب عبد الله بك وطلوعه إلى القلعة صرف علي بك الهندي ووضع القبض على محمد بك ابن ايواظ وإبراهيم بك الجزار وربط خيولهما بالإسطبل وطردوا جماعتهم وطوائفهم وسراجينهم ولم يزل كتخدا الباشا يشاغل عبد الله بك ويحادثه ويلاهيه إلى قبيل الغروب حتى قلق عبد الله ك وأراد الانصراف فقال له كتخدا الباشا‏:‏ لا بد من ملاقاتك الباشا ومحادثتك معه‏.‏

وقام يستأذن له ودخل ورجع إليه وقال له أن الباشا لا يخرج من الحريم إلا بعد الغروب وأنت ضيفي في هذه الليلة لأجل ما نتحادث مع الباشا في الليل‏.‏

وحسن له ذلك وتركه إلى الصباح فطلع محمد بك جركس وابن سيده محمد بك ابن أبي شنب وذو الفقار بك وقاسم بك وإبراهيم بك فارسكور وأحمد بك الأعسر الدفتر دار فخلع الباشا على محمد بك اسمعيل وقلده أمير الحاج وقلد عمر أغا كتخدا جاويشية عوضًا عن عبد الله أغا وقلد محمد أغا لهلوبا والي ونزلوا إلى بيوتهم‏.‏

وطلعت طوائف عبد الله بك وأتباعه وانتظروه حتى انقضى أمر الديوان ولم ينزل‏.‏

فاستمروا في انتظاره إلى بعد العصر ثم سألوا عنه فقالوا لهم أنه جالس مع الباشا في التنهة فنزلوا وأرسل محمد بك جركس لهلوبة الوالي إلى بيت كتخدا الباشا فقعد به إلى بعد العشاء فدخلت الجو خدارية إلى عبد الله بك فأخذوا ثيابه وما في جيوبه وأنزلوه وسلموه إلى الوالي فأركبه على ظهر كديش ونزل به من باب الميدان وساروا به إلى بيت جركس فأوقفوه عند الحوض المرصود ونزلوا بمحمد بك ابن أيواظ وإبراهيم بك الجزار فأركبوهما حمارين وسار بهم إبراهيم بك فارسكور والوالي على جزيرة الخيوعية وأنزلوهم في المركب وصحبتهم المشاعل فقتلوهم وسلخوا رؤوسهم ورموهم إلى البحر ورجعوا وانقضى أمرهم وتغيب حالهم وما فعل بهم أيامًا‏.‏

وكانت قتلتهم في شهر ربيع الأول سنة 1136‏.‏

ومات عبد الله بك وهو متقلد إمارة الحج وعمره ست وثلاثون سنة وكان حليمًا سموح النفس صافي الباطن‏.‏

ومات محمد بك ابن ايواظ بك وسنه ست وعشرون سنة وكان أصغر من أخيه المرحوم‏.‏

ومات الأمير قاسم بك الكبير وهو مملوك إبراهيم بك أبي شنب وخشداش محمد بك جركس تقلد الإمارة والصنجقية بعد قتل قيطاس بك في سنة 1126 في أيام عابدي باشا ولما هرب جركس وقبض عليه العربان وأحضروه إلى اسمعيل بك ونفاه إلى قبرص أتفق محمد بك ابن أبي شنب مع قاسم بك سرًا على إحضاره إلى مصر وسافر محمد بك إلى الروم بالخزينة وأشتغل شغله هناك على قتل اسمعيل بك وأرسل في الخفية وأحضره إلى مصر وأخفاه حتى حضر رجب باشا وفعلوا ما تقدم ذكره‏.‏

ولم يزل أميرًا ومتكلمًا بمصر حتى وقعت حادثة ظهور ذي الفقار بك والمحاربة الكبيرة التي خرج فيها جركس من مصر فقتل قاسم بك المذكور في بيته أصيب برصاصة من منارة الجامع كما تقدم وعندما علم جركس بموته حضر إليه والحرب قائم وكشف وجهه فرآه ميتًا وذلك سنة 1138‏.‏

ومات الأمير قاسم بك الصغير وهو أيضًا من أتباع إبراهيم بك أبي شنب وكان فرعون هذه الطائفة في دولة محمد بك جركس وهو من جملة المتعصبين مع ذي الفقار على قتل اسمعيل بك ابن ايواظ والضارب فيه أيضًا وفي اسمعيل بك جرجا ولم يزل حتى مات في رمضان بولاية البهنسا سنة 1137‏.‏

ومات محمد أغا متفرقة سنبلاوين وكان أغات وجاق المتفرقة وصاحب وجاهة ومات مقتولًا ومات الأمير إبراهيم أفندي كتخدا العزب المذكور قتله سليمان أغا أبو دفية وسليمان كاشف وخازندار ابن ايواظ بالرميلة في حادثة ظهور ذي الفقار كما تقدم ذكر ذلك في أيام علي باشا وملكوا في ذلك الوقت باب العزب وحضر محمد باشا وعلي باشا ووقعت الحروب مع محمد بك جركس حتى خرج من مصر وذلك سنة ثمان وثلاثين وسيأتي تتمة ذلك في ترجمة جركس‏.‏

ومات الأمير عبد الرحمن بك ملتزم الولجة وهو من أتباع ايواظ بك الكبير القاسمي وأمره أبنه اسمعيل بك ابن ايواظ وقلده الصنجقية وسافر بالخزينة 1135 وقتل اسمعيل بك في غيابه فلما حضر إلى مصر خلع عليه محمد بك ابن أبي شنب الدفتر دار قائمقام قفطان ولاية جرجا وأستعجله في الذهاب والسفر إلى قبلي فقضى أشغاله وبرز خيامه إلى ناحية الآثار وخرجت الأمراء والأغوات والاختيارية والوجاقات ومشوا في موكبه على العادة ونزلوا بصيوانه وشربوا القهوة والشربات وودعوه ورجعوا إلى منازلهم‏.‏

ثم أنه قال للطوائف والأتباع‏:‏ أذهبوا إلى منازلكم وأحضروا بعد غد بمتاعكم وأنزلوا بالمركب ونسير على بركة الله تعالى‏.‏

ثم أنه تعشى هو ومماليكه وخواصه وعلق على الخيول والجمال وركب وسار راجعًا من خلف القلعة إلى جهة سبيل علام إلى الشرقية ولم يزل سائرًا إلى أن وصل إلى بلاد الشام ومنها إلى بلاد الروم هذا ما كان من أمره‏.‏

وأما جركس فإنه أحضر علي بك وقاسم بك وعمر بك أمير الحاج وأمرهم بالركوب بعد العشاء بالطوائف ويأخذوا لهم راحة عند السواقي ثم يركبوا بعد نصف الليل ويهاجموا وطاق عبد الرحمن بك ولجة على حين غفلة ويقتلوه ويأخذوا جميع ما معه ففعلوا ذلك وساروا قرابة فلم يجدوا غير الخيام فأخذوها ورجعوا ولم يزل المترجم حتى وصل إلى اسلامبول وأجتمع برجال الدولة فاسكنوه في مكان وأخذ مكتوبًا من أغات دار السعادة خطابًا إلى وكيله بمصر يتصرف له في حصصه بموجب دفتر المستوفي ويرسل له الفائظ كل سنة وأستمر هناك إلى أن مات‏.‏

ومات الأمير الشهير محمد بك جركس وأصله من مماليك يوسف بك القرد وكان معروفًا بالفروسية بين مماليك المذكور فلما مات يوسف بك في سنة 1107 أخذه إبراهيم بك أبو شنب وأرخى لحيته وعمله قائمقام الطرانة وتولى كشوفية البحيرة عدة مرار ثم إمارة جرجا وسافر إلى الروم سر عسكر على السفر في سنة 1128 فضم إليه المبغضين له من الفقارية وغيرهم وتوافقوا على اغتياله ورصد له طائفة منهم ووقفوا له بالرميلة وضربوا عليه بالرصاص فنجاه الله من شرهم وطلع اسمعيل بك وصناجقه إلى باب العزب وطلب جركس إلى الديوان ليتداعى معه فعصي وأمتنع وتهيأ للحرب والقتال فقوتل وهزم وخرج هاربًا من مصر فقبض عليه العربان وأحضروه أسيرًا إلى اسمعيل بك فأشاروا عليه بقتله فأبى وقال‏:‏ أنه دخل إلى بيتي فلا سبيل إلى قتله وأنزله بمكان وأحضر له الطبيب فداوى جراحته وأكرمه وأعطاه ملابس وخلع عليه فروة سمور وألف دينار ونفاه إلى قبرص حسمًا للشر‏.‏

وأستمر الحقد في قلوب خشداشينه ومحمد بك ابن أبي شنب ابن أستاذهم واتفقوا على إحضار جركس سرًا إلى مصر‏.‏

وسافر ابن أبي شنب بالخزينة إلى دار السلطنة فأغرى رجال الدولة ورشاهم وجعل لهم أربع آلاف كيس على إزالة اسمعيل بك وعشيرته‏.‏

ووقع ما تقدم ذكره في ولاية رجب باشا‏.‏

وحضر جركس إلى مصر في صورة درويش عجمي واختفى عند قاسم بك ودبروا بعد ذلك ما دبروه من قتل الباشا وما تقدم ذكره في ترجمة اسمعيل بك‏.‏

ونجا اسمعيل بك أيضًا من مكرهم وظهر عليهم وسامحهم في كل ما صدر منهم مع قدرته على إزالتهم‏.‏

ولم يزالوا مضمرين له السوء حتى توافقوا على قتله غدرًا وخانوه وقتلوه بالديوان وأزالوا دولته‏.‏

وصفا عند ذلك الوقت لمحمد بك جركس وعشيرته فلم يحسن السير وطغى وتجبر وسار في الناس بالعسف والجور وأتخذ له سراجًا من أقبح خلق الله وأظلمهم وهو الذي يقال له الصيفي ورخص له فيما يفعله ولا يقبل فيه قول أحد وأتخذ له أعوانًا من جنسه وخدمًا وكلهم على طبقته في الظلم والتعدي فكانوا يأخذون الأشياء من الباعة ولا يدفعون لها ثمنًا ومن أمتنع عليهم ضربوه بل وقتلوه وصاروا يخطفون النساء والأولاد‏.‏

وصاروا يدخلون بيوت التجار في رمضان بالليل فلا ينصرفون حتى ضاق صدر الباشا وأبرز مرسومًا من الدولة برفع صنجقية محمد بك جركس وكتب فرمانًا وأرسلها إلى الوجاقات ومشايخ العلم والبكري وشيخ السادات ونقيب الأشراف بالأخبار بذلك وبالمنع من الاجتماع عليه أو دخول منزله‏.‏

ووصل الخبر إلى محمد بك جركس فكتب في الحال تذاكر وأرسلها إلى اختيارية الوجاقات والمشايخ بالحضور ساعة تاريخه لسؤال وجواب فذهب إليه الاختيارية فأكرمهم وأجلهم وأجلسهم ثم حضر المشايخ فلما تكامل المجلس أوقف طوائفه ومماليكه بالأسلحة ثم قال لهم‏:‏ تكونوا معي أو أقتلكم جميعًا فلم يسعهم إلا أنهم قالوا له جميعًا نحن معك على ما تريد‏.‏

فقال أريد عزل الباشا ونزوله فقالوا نحن معك على ما تختار‏.‏

ثم أنهم كتبوا فتوى مضمونها ما قولكم في نائب السلطان أراد الإفساد في المملكة وتسليط البعض على البعض وتحريك الفتن لأجل قتلهم وأخذ أموالهم فماذا يلزم في ذلك فكتب المشايخ بوجوب إزالته وعزله قمعًا للفساد وحقنًا للدماء‏.‏

فأخذ الفتوى منهم وقام وأخذ معه رجب كتخدا ومصطفى كتخدا وإبراهيم كتخدا عزبان ودخل إلى داخل وترك الجماعة في المقعد والحوش وعليهم الحرس وباتوا على ذلك من غير عشاء ولا دثار فلما أصبح صباح يوم الجمعة عاشر القعدة أرسل أحمد بك الأعسر إلى الباشا يقول له‏:‏ أنت تنزل أو تحارب وكان أرسل قاسم بك الكبير إلى ناحية الجبل بنحو خمسمائة خيال فقال‏:‏ بل أنزل وانظروا إلي مكانًا أنزل فيه‏.‏

ونزل في ذلك اليوم قبل الصلاة إلى بيت محمد أغا الدالي بقوصون ولم يخرج جركس من بيته ولا أحد من المعوقين سوى قاسم بك وأحمد بك‏.‏

ثم أنه كتب عرضًا على موجب الفتوى وختم عليه المشايخ والوجاقات وكتبوا فيه أنه باع غلال الحرمين وغلاب الأنبار وباع من غلال الدشائش والخواسك ثمانية وعشرين ألف أردب وختم عليه القاضي أيضًا وأرسله صحبة ستة أنفار من الوجاقلية في غرة الحجة سنة 1137‏.‏

ولما فعل ذلك أقام محمد بك الدفتر دار ابن أستاذه قائمقام فصار يعمل الدواوين في منزله ولم يطلع إلى القلعة إلا في يوم نزول الجامكية‏.‏

ولما فعل جركس ذلك صفا له الوقت وعزل مملوكه محمد أغا الوالي وقلده الصنجقية وسماه جركس الصغير وألبس علي أغا مملوكه ابن أخي قاسم بك الصغير صنجقية عمه وأعطاه بلاده وماله وجواره وقلد علي المحرمجي مملوكه الصنجقية أيضًا وكذلك أحمد الخازندار مملوك أحمد بك الأعسر وسليمان أغا جميزة تابع أحمد أغا الوكيل صناجق ألبسهم الجميع قائمقام في بيته‏.‏

ولم يتفق نظير ذلك وحضر جن علي باشا وطلع إلى القلعة فلم يقابله جركس إلا في قصر الحلي وكمل له من الأمراء ثلاثة عشر صنجقًا واستولوا على جميع المناصب والكشوفيات‏.‏

ولما تأمر ذو الفقار بعد قتل اسمعيل بك أنضم إليه كثير من الفقارية وسافر إلى المنوفية فأراد أن يجرد عليه وطلب من الباشا فرمانًا بذاك فامتنع فتغير خاطره من الباشا وأستوحش كل من الآخر وحصل ما تقدم ذكره من عزل الباشا ثم جرد علي ذي الفقار فاختفى ذو الفقار وتغيب بمصر إلى أن حضر علي باشا والي جريد واستقر بالقلعة ودبروا في ظهور ذي الفقار كم تقدم في خبر محمد باشا‏.‏

وخرج محمد بك جركس هاربًا من مصر فنهبوا بيته وبيوت أتباعه وعشيرته فأخرجوا من بيته شيئا لا يحد ولا يوصف حتى أنه وجد به من صنف الحديد أكثر من ألف قنطار ومن الغنم أزيد من الألف خروف‏.‏

وبعدما أحاطوا بما فيه من المواشي والأمتعة ونهبوها هدموه وأخذوا أخشابه وشبابيكه وأبوابه‏.‏

ولم يمض ذلك النهار حتى خرب عن آخره‏.‏

ولم يبق به مكان قائم الأركان وقد أقام يعمر فيه نحو أربع سنوات فخرب جميعه من الظهر إلى قبيل المغرب وقتلوا كل من وجدوه من أتباعه واختفى منهم من اختفى ومن ظهر بعد ذلك قتلوه أيضًا ونهبوا دياره‏.‏

وأخرج خلفه ذو الفقار تجريدة فلم يدركوه وذهب من خلف الجبل الأخضر إلى درنة فصادف مركبًا من مراكب الإفرنج فنزل فيها مع بعض مماليكه وتفرق من كان معه من الأمراء بالبلاد القبلية وسافر المترجم إلى بلاد الإفرنج فأكرموه وتشفعوا فيه عند العثماني بواسطة الالجي فقبلوا شفاعتهم فيه وأخذوا له مرسومًا بالعودة إلى مصر وأخذها أن قدر على ذلك بعد أن عرضوا عليه الولاية والباشوية ببعض الممالك فلم يقبل‏.‏

ولم يرض إلا بالعودة إلى مصر فوصل إلى مالطة وأنشأ له سفينة وشحنها بالجبخانة والآلات والمدافع ورجع إلى درنة فطلع من هناك وأمر الرؤساء بالذهاب بالسفينة إلى ثغر إسكندرية‏.‏

وحضر إليه بعض أمرائه وأتباعه المتفرقين فركب معهم وذهب إلى ناحية البحيرة فصادف حسين بك الخشاب فهرب من وجهه فنهب حملته وخيامه وذهب إلى الإسكندرية وكانت سفينته قد وصلت فأخذ ما فيها من المتاع والجبخانة والآلات ورجع إلى قبلي على حوش ابن عيسى وأجتمع عليه الكثير من العربان وسار إلى الفيوم فهجم على دار السعادة وهربت الصيارف فأخذ ما وجده من المال ونزل على بني سويف وكان هناك علي بك المعروف بالوزير فنزل إليه وقابله ثم سار إلى القطيعة بالقرب من جرجا ثم عرجا جهة الغرب قبلي جرجا وأرسل إلى سليمان بك وطلبه للحضور إليه بمن عنده من القاسمية فعدى إليه سليمان بك ومن معه وقابله وأطلعه على ما بيده من المرسوم والأمان والعفو‏.‏

وحضر إليه أحمد بك الأعسر وجركس الصغير فركب بصحبة الجميع وأنحدر إلى جهة بحري فتعرض لهم حسن بك والسدادرة وعسكر جرجا وحاربوهم فقتل حسن بك و طائفته ولم ينج منهم إلا من دخل تحت بيارق العسكر‏.‏

ونزل جركس بصيوان حسن بك وأنزلوا مطابخهم وعازقهم في المراكب وسار بمن معه طالبين مصر ووصلت أخبارهم إلى ذي الفقار بك فعمل جمعية وأخذ فرمانًا بسفر تجريدة وميرها عثمان بك تابع ذي الفقار وعلي بك قطامش وعساكر اسباهية وغيرهم فقضوا أشغالهم وعدوا إلى أم خنان وصحبتهم الخبيري وساروا إلى وادي البهنسا فتلاقوا مع محمد بك جركس فتحاربوا معه يومًا وليلة وكان مع جركس طائفة من الزيدية والهوارة وعرب نصف حرام فكانت الهزيمة على التجريدة وأستولى محمد جركس ومن معه على عرضيهم وخيامهم وقتل منهم نحو مائة وسبعين جنديًا وحال بينهم الليل ورجع المهزومون لمصر وقالوا لذي الفقار بك أن لم تتداركوا أمركم وإلا دخلوا عليكم البيوت‏.‏

فجمع ذو الفقار بك الأمراء واتفقوا على تشهيل تجريدة أخرى واحتاجوا إلى مصروف فطلبوا من الباشا فرمانا بمبلغ ثلثمائة كيس من الميري أو من مال البهار على السنة القابلة فامتنع الباشا فركبوا عليه وعزلوه وأنزلوه ولبسوا محمد بك قطامش قائمقام وأخذوا منه فرمانًا وجهزوا أمر التجريدة فأخرجوا فيها مدافع كبار وأحضروا سالم بن حبيب ومعه نصف سعد ونزل عثمان جاويش القازدغلي بجماعة جهة البدرشين وصحبته علي كتخدا الجلفي بالمراكب ورتبوا أمورهم وأشغالهم ووصل جركس ومن معه ناحية دهشور والمنشية ووقعت بينهم حروب ووقعت الهزيمة على جركس وقتل سليمان بك ونزلت القرابة المركب وسارت الخيالة صحبة العرب مقبلين‏.‏

وسار عثمان جاويش القازدغلي خلف قرا مصطفى جاويش ليلًا ونهارًا حتى أدركه عند أبي جرج فقبض عليه ومعه ثلاثة وأخذ ما وجده معه وأنزلهم في المركب وأتى بهم إلى مصر وقطعوا رؤوسهم وأرسلوا فرمانًا برجوع التجريدة ولحوق الصنجقيين وأغات البلك والأسباهية وسالم بن حبيب بجركس أينما توجه‏.‏

فسافروا خلفه أيامًا ثم عدى إلى جهة الشرق ومعه عرب خويلد وأقام هناك ينتظر حركة القاسمية بمصر وكانوا عدوا معه سرًا على قتل ذي الفقار بك فعدى إليه علي بك قطامش والعسكر وسالم بن حبيب فتلاقوا معه ووقع بينهم مقتلة عظيمة انجلت عن انهزام جركس ومن معه حتى ألقوا بأنفسهم في البحر‏.‏

وأما جركس فانه خلع لجام الحصان وأراد أن يعدي به بمفرده إلى البر الأخر فانغرز الحصان في روبة وتحتها الماء عميق فنزل من على ظهره ليخلصه فزلقت رجله وغرق بجانبه وكان بالقرب منه شادوف وعليه رجلان من الفلاحين ينقلان الماء إلى المزرعة فنزلا إليه فوجدا الحصان ميتًا وهو غاطس بجانبه لم يعلما من هو فجراه من رجله وأخذا سلاحه وزرخه وثيابه وما في جيوبه ودفناه بالجزيرة‏.‏

ومر بهما قارب صياد فطلباه ووضعاه فيه وكان علي بك جالسًا بجنب البحر ومعه سالم بن حبيب فنظر سالم إلى القارب وهو مقبل فقال ما هذا إلا سمكة عظيمة واصلة إلينا فأوقفوا القارب في ناحية من البر وتقدم أحد الشدافين إلى الصنجق وباس يده فقال له ما خبرك قال وجدنا جنديًا من المهزومين وهو غرقان بحصانه فلعله من المطلوبين وإلا رميناه البحر فلما رآه عرفه ورجع إلى الصنجق فأمر بإخراجه من القارب ووضع أحد الرجلين في الحديد وقال للثاني أذهب فآت بكامل ما أخذتماه وأنا أطلق لك رفيقك وأمر بسلخ رأسه وغسلوه وكفنوه ودفنوه ناحية شرونة وارتحلوا وساروا إلى مصر‏.‏

وكان القاسمية الذين بمصر فعلوا فعلهم وقتلوا ذا الفقار بك وذلك في أواخر رمضان والبلد في كرب والقاسمية منتظرون قدوم جركس وأبواب المدينة مقفلة وعلى كل باب أمير من الصناجق والوجاقلية داثرون بالطوف في الشوارع وبأيديهم الأسلحة‏.‏

فلما وصل علي بك قطامش إلى الآثار النبوية وأرسل عرفهم بما حصل خرج إليه عثمان بك ودخل صحبته بموكب والرأس أمامهم محمولة في صينية فكان ذلك اليوم يوم سرور عند الفقارية وحزن عظيم عند القاسمية‏.‏

فطلعوا بالرأس إلى القلعة فخلع عليهم الباشا الخلع السمور ونزلوا إلى منازلهم وأتتهم التقادم والهدايا‏:‏ فكان بين موت جركس وذي الفقار خمسة أيام ولم يشعر أحدهما بموت الآخر‏.‏

ثم تتبعوا القاسمية وقتلوا منهم ألوفًا‏.‏

وبهذه الحوادث انقطعت دولة القاسمية و السبب في دمارهم محمد بك جركس المترجم وابن أستاذه محمد بك بن أبي شنب وسوء أفعالهما وخبث نياتهما فإن جركس هذا كان من أظلم خلق الله وأتباعه كذلك وخصوصًا سراجه المعروف بالصيفي وطائفته وكانت أيامه شر الأيام وحصل منهم من أنواع الفساد والإفساد مالا يمكن ضبطه وكان موته في أواخر رمضان سنة 1142‏.‏ ومات